فتنة خلق القرآن
فتنة خلق القرآن لم تثر ولم يتكلم فيها أحد حتى نهاية القرن الثاني الهجري, ذلك أن الدين طوال فترة النبوة والخلفاء الراشدين وبني أمية وبدايات الدولة العباسية, كان فطريا بسيطاً مقبولا من العامة والخاصة كما هو.
مع بناء بغداد نشطت حركة الترجمة من اللغات الأخرى إلى العربية, وغزت الثقافات الأخرى قلوب وعقول المثقفين من أبناء العروبة والإسلام, وكان للحسن البصري حلقة في المسجد بالبصرة يحضرها شباب المسلمين, ومنهم شاب ذكى لبيب, يبدو من أسلوبه التبرم والتمرد، هذا الشاب يسمى واصل بن عطاء, وفي يوم من الأيام تكلم الحسن البصرى حول مرتكب الكبيرة, وقال: هو في الجنة إن تاب أو يعذب على قدر ذنبه وليس كافرا، وهذا معتقد المسلمين من لدن عهد النبي- صلى الله عليه وسلم – أن مرتكب الكبيرة لا يكفر بفعلها إلا إذا أعتقد أنها حلال, ولكن واصل بن عطاء لم يرض بهذا الرأي, وقال: هو ليس بمسلم ولا كافر, إنما في منزلة بين المنزلتين, وهنا رفض الحسن البصرى إمام التابعين قوله؛ فغضب واصل واعتزل مجلس الحسن البصرى؛ فقال الحسن قولته الشهيرة: "اعتزلنا واصل".
انضمت مجموعة من مثقفي المسلمين إلى واصل, وتتلمذ عليه بعضهم فسموا المعتزلة والواحد معتزلي, وهذه الفرقة ينسب إليها النشاط الثقافي والعقلي الكبير, الذي ساد بغداد والعراق حتى منتصف القرن الثالث الهجري، هذه الفرقة تحديدا هي التي قالت بأن القرآن مخلوق, وأبرز علمائها هو إبراهيم بن سيار النظام, ويبدو أن الخليفة المأمون تتلمذ على يد هؤلاء, وأشربوه معتقدهم على أنه هو الصحيح, ومن ثم أراد المأمون حين وصل إلى السلطة أن يحمل الناس على هذه العقيدة المخالفة لمعتقد سلف الأمة، وهو أن القرآن كلام الله, لا يقال فيه غير ذلك, تكلم الله به على الحقيقة.
في هذه الفترة كان إمام الناس هو أحمد بن حنبل, كان يحضر مجلسه تسعون ألفا, وكان معه شاب قليل العلم, لكنه الوحيد الذي ثبت معه في هذه المحنة, وهو محمد بن نوح ومات من الجلد، وقد تطور الأمر بالمأمون أن أمر بحمل الناس كلهم على القول بأن القرآن مخلوق، وخصوصا علماء الحديث وأبرزهم أحمد بن حنبل, ورفض علماء الحديث, لكن قوة المأمون وشدة بأسه جعلت الجميع يقولها مداراة له, وجعل بعض القوم يقول: القرآن مجعول, واشتدت الفتنة على الناس حين جاء دور أحمد بن حنبل ليحمل على القول فأبى, وصلبوه فأبى, وجلدوه فأبى, فلم يستجب الناس؛ لتطلعهم إلى أحمد بن حنبل, وثقتهم في قوله.
كان هذا أقوى نفوذ سياسي وصل إليه المعتزلة في التاريخ,وأبرز أدبائهم الجاحظ الذي جعل يتندر على أهل الحديث، وكان لذلك أثره أيضا في فتنة القوم.
حين مات المأمون خضع أحمد بن حنبل للإقامة الجبرية,وأوصى المأمون خلفه المعتصم بحمل الناس على خلق القرآن؛ فتعرض أحمد بن حنبل للامتحان مرة أخرى, وطال به أمد الامتحان حتى عصر المتوكل الخليفة السني, الذي كان يعارض القول بخلق القرآن فأطلق أحمد بن حنبل في نهاية عمره, وقويت شوكة أهل الحديث, وانتشر علم أحمد بن حنبل وقدمه المتوكل, وأكرمه بعد كشف هذه الفتنة العظيمة فتنة خلق القرآن.
لا تنس الاشتراك في القائمة البريدية لموقع جامعة المنح للتعليم الالكتروني .