أبو العبر في الأغاني
أول ما قرأت عن أبي العبر كان في كتاب الأغاني, وكان كتاب الأغاني معروفًا لي منذ المرحلة الثانوية, كتاب ممتع وشائق, وقد حاولت جاهدًا أن أفهم طبيعة المصطلحات فيه, لكني لم أظفر بشيء, إنها تمثل لي حتى الآن لوغاريتمات.
المهم أنني ولجت باب الجامعة وبداخلي حب وإصرار وشغف بقراءة الكثير من تاريخ العرب, وطبيعة الدولة العربية والإسلامية تملؤك بالرغبة والتعطش لقراءة الكثير منها, ثقافة العرب مليئة بالمبالغات, ولكنها كانت أيضا مليئة بالحكمة والتحول, والقيم التي قلما تتوافر في ثقافة وحضارة كان لها تلك الظروف من النشأة إلى الفتوة, وحتى الشيخوخة والضعف والانهيار.
كتاب الأغاني يتكون من ثلاثين جزءًا, كتبها رجل معروف بميوله الشيعية, وذكر عنه أنه كان مستهترًا في حياته الشخصية, بل كان يألف الوحش, وابتعد عن سيماء العلماء في ذلك العصر, وهو كتاب من ضمن كتب الشرق والثقافة العربية التي نجت من مذبحة الكتب, التي أقامها المغول والتتار على شرف سقوط بغداد في أيديهم.
قرأت خمسة وعشرين جزءًا من الأغاني, واستمتعت كثيرًا بقراءتها, هذا حقيقي, ولكنني كنت على شبه يقين بأن هذا الرجل يمكر بالقارئ كثيرًا؛ فالكتاب للمتعة لا التاريخ؛ فقد روى فيه عن المجان والفساق والمخمورين والشطار و(البلطجية), وساق بدليل ودون دليل روايات وأحداثُا أقل ما يقال فيها: إنها محض خيال, إن لم تكن مغالطات تاريخية شديدة الوطأة على علم التاريخ والواقع والعقل.
لكن لا أحد – أقصد مثلي – ينكر أن الكتاب ملهم وعبقري, وقعت فيه على كثير من أخبار الشعراء والكتاب كنت أجهلها, شخصية ليست بذات أهمية في تاريخ السياسة, ولا تصنف في عداد فحول الشعراء, ولم تؤثر كثيرًا في مجريات العصر, لكنها كانت غريبة التوجه فجذبت انتباهي.
أبو العبر.. الكنية غريبة ومضحكة, ضحكت قبل قراءة الترجمة, فقط العنوان ملفت وغريب وفكاهي وساخر, هل هناك حقيقةً شخص اسمه أبو العبر, إنها مهزلة, أحببت أبا العبر حين قرأت عنه, تعاطفت معه؛ حيث كان رجلًا فاضلًا أجبرته ظروف الكساد والحاجة على ترك الفضل والوقار لأهله, والعقل لأهل الحكمة, وتحامق فبرز في الحمق حتَّى فاق الحمقى؛ فكسب من حمقه الكثير, وظهر ذكاؤه في التلاعب باللغة, وكانت كنيته أبا العباس فصيرها أبا العبر, ثم أصبحت قبل موته ما يقرب من نصف سطر لا تكاد تفهم منه شيئًا.
لقد قدم أبو العباس أحمد بن محمد الهاشمي نفسه للعالم رغم نسبه الشريف وعقله الراجح على أنه رجل أحمق, وشاعر نزق طائش, وذاع ذكره في بغداد أيام الخليفة المتوكِّل – حسب أبي الفرج الأصفهاني – حتى إنه كان يرميه في البرك؛ فيقول:
ويأمر بي الملك & فيطرحني في البرك
ويصطادني بالشبك & كأني من السمك
ويضحك كك ككك & ككك كك ككك
أمَّا أبو العبر المصري فشخصية اخترعتها أنا, تعيش في زماننا, ولكن الرابط المشترك بينها وبين أبي العبر الهاشمي أنهما يتحامقان, وقد سخر أبو العبر المصري بحمقه من الجميع ومن العلم والثورة والفوضى والنظام والجهل والتطور.. إنه شخصية هزلية وجذابة.