العلاقة بين الفيلم والرواية
العلاقة بين الفيلم والرواية
احتلت العلاقة بين الأدب الروائي والفيلم السينمائي مكانًا مهمًا في معظم ما كتب عن السينما من أفكار نظرية ورؤى تطبيقية وصار البحث في مناطق الالتقاء والافتراق بين هذين الفنين مجالاً لكثير من الأبحاث والدراسات ومحورًا دارت حوله الآراء المختلفة والمقولات المتضاربة.
ثمة رأيان متناقضان حول علاقة السينما بالرواية، وثمة منطقة تمتد بين هذين النقيضين، كما هي العادة بين كل نقيضين.
الرأي الأول: وهو الشائع كثيرًا، يرى أن العلاقة بين الرواية والفيلم علاقة واجبة وشديدة القوة، وتنطلق هذه النظرية من نقاط الاشتراك الكثيرة بين الفنين ومن موروث السينما الذي اعتمد كثيرًا من الروايات في تحقيق الأفلام عنها وإعدادها، ويمكن القول أن هذا الأمر لا يعني الرواية حسب بل هو يشمل علاقة السينما بالمسرح أيضًا، حيث تشترك هذه الفنون الثلاثة في الطابع السردي لها، أي أنها تسرد أحداثًا مع ملاحظة مساحة الحرية في هذا الطابع بين فن واخر، وهذه الأصرة التي تجمع هذه الفنون الثلاثة إنما هي رأي شائع سوغه كثرة اقتباسات السينما من هذين الفنيين، وتشابه أهدافهما ووظائفها الاجتماعية وأثرها في الحياة المعاصرة.. فمختص مثل ايتيان فيزيليه يعبر عن هذه العلاقة (تبدو لي هذه القرابة إيهاميه أكثر مما هي حقيقية. يجب أن نرى أن السرد الروائي في خطوطه الأساسية يمكن أن يشكل مادة درامية كما يمكن أن يشكل مادة روائية، وإن ما يميزه الرواية هو طريقة معينة في تناول القصة ونموها وأغنائها بإطار خارجي وتقطيعها إلى عدة أمكنة ومزجها بتحليل مجرد، وفي الواقع فإن هذه المميزات الروائية هي بعيدة عن أن تكون قابلة للاستيعاب في السينما) … ومما قاله فيزيليه هو ما يعبر عنه موريس بيجا: (إن الأدب المكتوب يستطيع أن يعبر عن الأفكار تعبيرًا اقتصاديًا أفضل مما يستطيع أن يفعله الفيلم، وهذا أمر يتفق عليه كثير من المهتمين بالموضوع ويعتقد الكثير من الناس أن ذلك ينطوي على نتيجة مفادها أن الأدب وسيلة "فكرية" أما الفيلم فميدانه "العواطف" .. وعلى الرغم من اتفاق الدراسين والنقاد على هذه الصعوبات أو وجوه الاختلاف العميقة بين الرواية والفيلم إلا أن ثمة أمرين تجدر الإشارة إليهما:
1 – إن كثيرًا من المبدعين السينمائيين كانوا يحاولون باجتهاد ردم هذه الهوة وهي "فكرية" الرواية، بإيجاد معادل بصري أحيانًا أو الاستفادة من تقنيات السينما ووسائل إنتاج المعنى في اللغة السينمائية للتعبير عن الأفكار المجردة التي تحملها الرواية.
2 – إن كل المنظرين الذين تعرضوا لهذه العلاقة أهملوا عنصرًا غاية في الأهمية يسهم في ردم الهوة ونقل الأفكار المجردة سينمائيًا فعلى الرغم من عجز الرؤية البصرية – وهي وسيط الفيلم – عن إيجاد معادل بصري مضبوط ومعياري يمكن الركون إليه دون التباس للأفكار الباطنية والرؤى التحليلية المجردة في الرواية، على الرغم فإن الباحث يرى أن أداء الممثلين هو قيمة مهملة عند كل المنظرين في هذا الباب، فالممثل يمكن أن ينجح في نقل ما يعجز عنه البناء البصري في لغة السينما، أو في أقل تقدير يمكنه أن ينقل للمتلقى الخطوط العامة والأساسية من تلك الأفكار التي – بدونه – يستحيل على الفيلم أن ينقلها بوسيلة من وسائله البصرية الممكنة.
الرأي الثاني: النقيض في أمر العلاقة بين الرواية والفيلم، فهو ما صرح به بعض السينمائيين مثل انغمار برغمان حيث يرى أن الفيلم لا علاقة له بالأدب فطبيعة الاثنين ومادتهما مختلفان عادة، وهو ما توسع في التعبير عنه السينمائي – الروائي لأن روب غريبة في حوار معه (أن نرى تطابقات معينة بين جمل وصور أرى ذلك عديم الجدوى وأمرًا خطيرًا بالنسبة لي: هما مادتان مختلفتان كليًا بل متعارضتان، أنا أواصل إنجاز أشرطة وكتابة روايات ولن أشرطة برواياتي ولا روايات بأشرطتي، لأنهما فعاليتان منفصلتان تمامًا. ويمكنك أن ترى كل العلاقات التي تريدها بين السينما والأدب النسبة لي لا أرى أية علاقة).
إن هذه الرؤية المتطرفة تبدو استعراضية ومجانية أكثر من كونها حقيقة بل إن فيما يفعله غريبة ويرغمان ما يدحض ما ذهبا إليه، فقد استفاد غريبة من ما يسمى (رؤية الكاميرا) في إيجاد تقنية فنية في رواياته (إن الموضوعية السينمائية الهدف الذي يسعى إليه كاتب الرواية فهو يرى أن العنصر اللغوي الملائم للرواية الجديدة إنما هو الصيغة البصرية الوصفية التي تكتفي بأن تقيس وتقوم وتحدد وتصف). ومرة أخرى يدحض غريبة ما قاله بخصوص عدم إنجازه أشرطة برواياته ولا روايات بأشرطته (لم أقدم لـ (الآن رينييه) نص سيناريو العام الماضي في المرناباد فقط بل التقطيع الكامل للفيلم أي قدمت له فيلمًا متخيلاً مزوداً بالمونتاج، وهو النص الذي نشرته فيما بعد كرواية مصورة).
أما برغمان فقد اعتاد على كتابة سيناريوهات أفلامه بصورة أدبية، أي بوصفها نصوصًا لغوية أدبية وليس بمعادلاتها البصرية أو نصوصًا سينمائية بصرية كما هو حال سيناريو فيلم (سوناتا الخريف).
إن كلام هذين المبدعين يصدق على مفهوم الاقتباس لا على مفهوم الفن الروائي فهما قد أفادا من الرواية، وأو أفاد غير مباشرة وإن لم يقتبسا عملاً روائيًا بعينه ويحولاه إلى فيلم سينمائي… ويرى الباحث الدكتور طه الهاشمي ان تطور فني الرواية والسينما سوف يطيح بهذه النظرية الجزئية للعلاقة بينهما (لقد تطور أساليب السينما شأنها شأن الرواية إلى القضاء على مفهوم الإبطال واختفاء الحبكة وغيره من عناصر السرد والوصفية وهي بهذا إنما تعبر بصدق عن الزمن الذي نعيشه) ، بمعنى أخر أن عصر تداخل النصوص وتلاحم الأجناس يمكن أن يكون عصرًا لتداخل الفنون دون هيمنة فن على الأخر في الصيرورة الإبداعية النهائية إلا بالقدر الذي يتحكم به الوسط الإبداعي الذي ينتمي إليه النص المنتج.. إن شكل العلاقة الفعلي بين الرواية والفيلم هو الاقتباس ومعلوم أن الدراسين يضعون الاقتباس في ثلاثة أنواع حسب ما قسمها لوي دي جانيتي:
أولاً: الإعداد غير المشدود وهو (مجرد فكرة وموقف أو شخصية مأخوذة من مصدر أدبي ثم يتم تطويرها بصورة مستقلة).
ثانيًا: الإعداد الأمين وهو (يحاول اعادة خلق المصدر الأدبي بالتعبير الفيلمي محافظًا على روح المصدر الأساسي قدر الإمكان) لقد شبه اندرية بازان المعد الأمين بالمترجم الذي يحاول أن يجد المعادلات للأصل.
ثالثًا: الإعداد الحرفي/ الأدبي وهو أن (الاختلافات بين الإعداد الأمين وغير المشدود والحرفي هي في جوهرها مسألة درجة وفي كل حالة يقوم الشكل السينمائي لا محالة بتغيير المضمون الأصلي الأدبي).
إن الذي يبدو لنا من خلال ما عبر عنه لوي دي جانيتي هو أن تغيير الوسط يفضي بالضرورة إلى تغيير المضمون وبالتالي فإن أي اعداد سينمائي مهما كانت أنواعه هو مختلف ضرورة عن الأصل الأدبي بدرجة أو بأخرى، والأمر الذي يوله جانيتي اهتمامًا هو إمكانية تداخل أنواع الإعداد الثلاثة في عمل سينمائي واحد. فالفصل الذي نلحظه في كلامه يوحي بانعدام إمكانية استخدام نوعين من الاعداد بل وجود استخدام نوعين من الاعداد بل وجود استخدام أكثر من نوع واحد، فالرواية المليئة بالأحداث الثانوية ستضطر المخرج أو المعد السينمائي إلى تكثيف هذه الأحداث بصورة ما تسهم في نقل الحدث الرئيسي، وفي هذا الأمر يتوجب عليه أن يداخل بين الاعداد غير المشدود من خلال اختياره حدثًا رئيسًا أو موقفًا مركزيًا أو شخصية محورية يقيم عليها فيلمه وهي كذلك في الأصل الأدبي الذي نقل عنه، والاعداد الأمين الذي يجعله يحافظ على الخط العام للأصل الأدبي من خلال الاختصار والتكثيف ومراعاة الفكرة الأساسية ومقاصد الرواية الرئيسية، أما محاولته إيجاد معادلات بصرية مطابقة لما هو موجود في مواضع من الأصل الأدبي فهي اعداد حرفي لا محالة، وهكذا ففي كل فيلم تقريبًا تتداخل الأنواع الثلاثة للاعداد كلها في صياغة الرؤية الفلمية للنص الأدبي غير أنها لا تمتلك الأهمية ذاتها. ومعنى هذا أن مبدأ الهيمنة هو الذي نصنف الفيلم حسب نوع معين من الأعداد، فالأنواع لكها متوافرة ولكن النوع المهيمن هو الذي يصبغ الفيلم بطابعه دون أن يلغي وجود النوعين الأخرين ولكنه من خلال هيمنته وأهميته البارزة يغطي عليها ويحتل مساحة أكبر منهما.
جميع الحقوق محفوظة لجامعة المنح للتعليم الإلكتروني