القراءة خلف الإمام
مسائل من فقه (الأسود بن يزيد النخعي) تبرز منهجه الاجتهادي من خلال المقارنة بفقهاء الحجاز
المسألة الثالثة : القراءة خلف الإمام :
وهذه المسألة من المسائل التي يستشهد بها في مجال الحديث عن اختلاف المنهج بين الحجازيين والعراقيين حيث يرى بعض الباحثين أن أهل الحجاز من التابعين يقفون في هذه المسألة عند النصوص بينما يرون أن الكوفيين من التابعين ومنهم الأسود اعتمدوا في ذلك على الرأي.
أولاً : الأقوال
- قول الأسود :
ذهب الأسود إلى منع القراءة خلف الإمام مطلقاً في الجهر والسر.
ب – قول فقهاء الحجاز
ذهب سعيد بن المسيب إلى أن الإمام إذا جهر أنصت المأموم ، ولم يقرأ وإذا لم يجهر الإمام قرأ المأموم لنفسه ووافقه القاسم بن محمد ، وعروة بن الزبير، وأبو سلمة بن عبد الرحمن ، وسالم بن عبد الله بن عمر ، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، ومجاهد ، وعطاء ، وغيرهم من فقهاء الحجاز.
ثانياً : الأدلة:
- قوله تعالى : (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآَنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ).
قال الجصاص : "وكما دلت الآية على النهي عن القراءة خلف الإمام فيما يجهر به فهي دالة على النهي فيما يخفي؛ لأنه أوجب الاستماع والإنصات عند قراءة القرآن ولم يشترط فيه حال الجهر من الإخفاء فإذا جهر فعلينا الاستماع والإنصات وإذا أخفى فعلينا الإنصات بحكم اللفظ لعلمنا بأنه قارئ للقرآن".
- عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا قرأ فأنصتوا".
فالنبي صلى الله عليه وسلم أمر بالإنصات عند قراءة الإمام وهذا عام في الجهرية والسرية.
- عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "من كان له إمام فقراءته له قراءة".
فالحديث دل على أن قراءة الإمام ، قراءة للمأموم ولم يخص بذلك الجهرية فدل على أن المأموم لا يقرأ مطلقاً.
4 – عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "تكفيك قراءة الإمام خافت أو جهر".
5 – وعن علي رضي الله عنه قال : قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: "أقرأ خلف الإمام أو أنصت؟
قال : "أبل أنصت فإنه يكفيك" وهذا عام في الجهرية والسرية.
ب – أدلة القول الثاني
- قوله تعالى : (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآَنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) قال الشافعي "هذا في القراءة التي تسمع خاصة".
- عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف من صلاة جهر فيها بالقراءة فقال : "هل قرأ معي أحد منكم آنفا" ؟ فقال رجل : نعم يا رسول الله قال : "إني أقول مالي أنازع القرآن" ؟ قال الزهري :
"فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جهر فيه النبي صلى الله عليه وسلم بالقراءة من الصلوات حين سمعوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
- عن عمران بن حصين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، صلى الظهر فجعل رجل يقرأ خلفه "بسبح اسم ربك الأعلى" فلما انصرف قال : "أيكم قرأ أو أيكم القارئ" فقال رجل : أنا. فقال : "قد ظننت أن بعضكم خالجنيها" فالحديث دل على إثبات قراءة السورة في السرية للإمام والمأموم.
ثالثاً : المناقشة
بعد النظر في أدلة القولين أجد أن الاختلاف ليس راجعاً إلى اختلاف في المنهج حيث إن أساس الاستدلال لدى الفريقين هو النص ، حيث استدلوا جميعاً بالآية وإنما وقع الخلاف بينهم عند الاجتهاد في تفسيرها وتفهم معناها. فالأسود رأى أن الآية عامة في السرية والجهرية وسعيد ومن معه أوصلهم اجتهادهم إلى أن الآية خاصة في الجهرية وهذا أمر اجتهادي ، والاجتهاد يغلب عليه الظن والرأي وليس النص.
وعند النظر في أدلة الفريقين الأخرى نجد اتفاقهم في المنهج فقد استدل الجميع بالسنة النبوية وهي نصوص وإنما كان سبب الخلاف راجعاً – والله أعلم – إلى تعارض تلك النصوص في الظاهر فالكل حاول التوفيق بينها وأخذ ما رآه راجحاً.
وقد يكون سبب الخلاف أن كل فقيه أخذ بما وصله من الأحاديث فليس وصول جميع الأحاديث في المسألة إلى الفقهاء في كل مصر مؤكداً. وعند تدقيق النظر في بعض الأحاديث تجد أن الاجتهاد في توجيه تلك الأحاديث لتوافق الرأي الفقهي لكل فقيه أخذ دوراً ظاهراً خاصة حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي هو دليل الأسود الأول من السنة ، فالحديث عام أو خاص هذا هو محل الاجتهاد فرجح الأسود العموم بينما رجح الحجازيون الخصوص . وكذلك حديث عمران بن حصين وهو الدليل الثالث للفريق الثاني يحتمل منع القراءة وعدم المنع فرجح الفريق الثاني عدم المنع وحملوا قول النبي صلى الله عليه وسلم "قد ظننت أن بعضكم خالجنيها" على أن يجهر على الإمام بحيث ينازعه القراءة. إذا أخلص إلى أن المنهج في هذه المسألة كان واحداً فالجميع كان منهجهم الاستدلال بالنصوص والاجتهاد في دفع التعارض بينها وفي تفسيرها وبيان وجه الاستدلال منها. وهذا الاجتهاد هو سبب الخلاف بين الأسود والحجازيين وليس أصل الاستدلال . وهكذا يكون قول من قال : إن الرأي المدني كان قوياً من حيث الرواية بخلاف رأي الكوفيين الذي كان قوياً من حيث الدراية ضعيفاً من حيث الرواية مجانباً للصواب فأين ضعف الرواية عند من استدل بتلك النصوص وأخذ بها على وجه العموم ، فكلهم استدلوا بالنصوص واستعملوا الرأي في توجيه تلك النصوص .