فيلم «ولولة الروح»
فيلم «ولولة الروح»
«صراخ روح الفن والثقافة من ظُلم العقل السياسي المُدبِّر»
بقلم الأستاذ: عبد الرحيم الشافعي
في تعليقٍ للفيلسوف الألماني «هيجل» على فلسفة الفن وعلاقتها بالروح كتب في كتاب «المدخل إلى علم الجمال»: «يكمُن جوهر الفن في كونه تعبيرًا تلقائيًّا عن روح الإنسان وخلوده، ويدفعه إلى ذلك غريزة قارَّة في طبيعته البشرية التي تنحو به إلى التَّعبير عن ذاته تعبيرًا جماليًّا، فيقوم بإيداع هذه العاطفة في المادَّة المحسوسة، لكي تبقى بعد أن يفنى». وهذا ما سنشهده واضحًا وجليًّا في قصَّة فيلم «ولولة الروح».
يُعرِّف هيجل الفن بأنه تجسُّد الفكرة (المضمون الروحي) في المادَّة، أو الشكل.. «وتكمُن مهمة الفن في التوفيق بين هذين الجانبين: الفكرة، وتمثيلها الحسي؛ بتشكيل كلية حُرَّة منهما بمقدار تطابُق الفكرة مع الشكل، والذي يُحقِّق درجة سُمو الفن، ولكي يتحقَّق هذا لا بد أن يشتمل على عدَّة شروط: أوَّلًا: لابدَّ أن يكون المضمون الذي ينبغي تمثيله صالحًا للتمثيل فنيًّا، ثانيًا: لا يجوز أن يشتمل مضمون الفن على شيء مجرد، ثالثًا: يجب أن يكون الشكل والصورة عيَّنيين في الجوهر ويتلاقيان وينسجمان مع بعضهما البعض، وهذا التطابق هو ما يكوِّن «المثال»… وعليه، يؤكد هيجل أن «الفكرة والتمثيل يتطابقان في الفن الأكثر رُقيًّا على نحو مُوافق للحقيقة، بمعنى أن الشكل الذي يتجسَّد فيه الفكرة هو الشكل الحقيقي في ذاته، وأن الفكرة التي يُعبِّر عنها تُشكِّل بدورها التعبير عن الحقيقة».
يُقصد بالولولة في المُعجم الجامع: العويل، والصراخ، أو النواح، ويُقال ولولة النساء، يعني نواحهنَّ وصياحهنَّ، ولكن هل للروح صوت يصيح وينوح كصوت النساء؟
مند الأزل تُعتبر الروح كيانًا خارقًا للطبيعة وذات طبيعة غير ملموسة، وهذا المصطلح في حدِّ ذاته يحمل طابعًا دينيًّا وفلسفيًّا وثقافيًّا، وقد اختلف تعريفه وتحديد ماهيَّته في الأديان، والفلسفات، والثقافات المختلفة، وإذا ما قيل هنا «ولولة الروح» فهذا يعني إمَّا أن الروح في هذا الفيلم تُعد الأساس للإدراك، والوعي والشعور عند الإنسان، وهو على قيد الحياة؟ وإمَّا أن الروح هنا تعبير مجازي قد يجسد طبيعتها غير الملموسة؟
على ذكر قضية الروح فقد استهلَّ الفيلسوف الألماني «هيجل» فلسفة الجمال من خلال فلسفة الروح في كتاب «فنومينولوجيا الروح» التي تنشأ من التضاد ما بين المُتناهي واللا مُتناهي كمُركَّب عن الفكرة في ذاتها والطبيعة في تخارجها، أي القضية ونقيضها، وموضوع الفيلم قد يكون الفن، ومن هنا يتلاقى مع الروح المُطلق بحُكم أنهما يشتركان في دائرة واحدة هي دائرة الوعي بالحقيقة، حقيقة من؟
يتعقَّب فيلم «ولولة الروح» قصَّة طالب جامعي سابق في شُعبة الفلسفة، ينشط ضمن الاتحاد الوطني لطلبة المغرب، يلتحق بسلك الشُّرطة.
هنا اتَّضح أن هناك اصطدامَ مجالين مختلفين، أولًا ثقافيًّا معروف أن طالب الفلسفة تتكوَّن لديه تساؤلات عقلانية خارجة عن دوائر سياسية وآيديولوجيَّة، وثانيًا معروف أن الاتحاد الوطني لطلبة المغرب منظمة طلابية نقابية ذات توجُّه يساري، وكانت تهدف الى مُحاربة الاستعمار الثقافي ونشر الثقافة الوطنية، فما الذي جعل هذا الطالب اليساري ذا الفكر المتحرر والنقد المحض أن يلتحق بكلية الشرطة؟
أضحى هدا الطالب اليساري السابق شرطيًّا من الواجب عليه اعتقال رُفقائه المُناضلين اليساريين بعدما كان واحدًا منهم، وهذا الانقلاب يُجسِّد تلك القضية التي عاشتها شُعبة الفلسفة في فترة السبعينات، حيث تم إقبارها باعتبارها خطرًا يهدد الفكر السياسي الآيديولوجي المُتسلط .
في هذا الصراع السياسي الثقافي الذي انتهى بقتل الفكر النقدي الحر، وانتصار السلطة، ظهرت قضية كحل أوسط بين قضيتين، والتي تُعتبر سبيلًا للنجاة، سواء في قضية الفيلم، أو في الحياة، وهو «الفن» بصفةٍ عامةٍ، أمَّا حسب سياق الفيلم، فإنه «فن العيطة»، ويُعتبر لونًا غنائيًّا يعتمد على أشعار تحمل معاني مُشفَّرة، لا يفهمها إلا أنصارها، كنوع من شفرة سرية بين المُقاومين، من النساء والرجال، وهي نوع من المقاومة ضد المُحتل، ويعني مصطلح العيطة النداء، وفي مفهومها الأصلي القديم، نداء القبيلة والاستنجاد بالسلف لتحريك واستنهاض همم الرجال للمقاومة ضد الاستعمار.
يتميَّز فيلم «ولولة الروح» بإخراج بسيط لموضوع عميق، بناءً على رؤية المخرج في استعمال لقطات عامة ومتوسطة، أُسمِّيها ثنائية اللقطات بين اللقطة الوحيدة واللقطة المتوسطة، في تأطير المشاهد، مع توظيف كاميرا ثابتة الحركة، في قصة ذات بناء درامي مُحكم، وقد كان استعمال هذا الإطار ذا حدود مغلقة بالنسبة للأحداث، وخاصة في مشهد جريمة القتل الغامض؛ إذ تمَّ تقييد معايير سلوك الشخصيات، ما جعل الخط العام الفيلم يمشي عبر ايقاع زمني بطيء، وهذا قد وضع المُشاهد في غير معاني القضية، إذا ما تمَّ ربط عنوان الفيلم بالأحداث، ومن الواضح في فيلم «ولولة الروح» أنه أثبت أن العيطة فن أصيل ضارب في جذور التراث الشعبي والثقافة المغربية، حيث يستقي شيوخ القبائل مواضيعهم من الحياة الاجتماعية للإنسان المغربي، وقد تناولت قصائدهم في هذا الفيلم موضوع العشق والذم في سبيل الخلاص، من ظلم العباد والاستبداد، وهذا ما يجسد علاقة فكرة فن العيطة مع صراخ الروح، ليشتركا في دائرة واحدة هي دائرة الوعي بالحقيقة.
تمتدُّ مدة الفيلم إلى حوالي ساعة ونصف الساعة، وهو من إخراج عبد الإله الجوهري، وإنتاج بوشتي فيزيونا، سيناريو وحوار عثمان أشقرا، بطولة كل من سعيدة باعدي، وجيهان كمال، ومحمد الرزين، وبنعيسى الجيراري، وآخرين.