علم البلاغة.. فخ الشعراء
لم تكن العرب تعرف في سليقتها ولا فطرتها اللغوية شيئًا معقدًا لكلامها لا نحوا ولا صرفا ولا بلاغة ولا عروضًا, وإنما هي تأتي الكلام وترسله على الفطرة سويًّا لا لحن فيه ولا خطا, وقد يشذ الشاهد من كلامهم لعدم وصول ما يقوي مذهبه.
وبناءً عليه كانت تشبيهاتهم واستعاراتهم ومجازاتهم وكناياتهم تكاد تكون مكررة وبسيطة, تدور في دوائر حسية ضيقة, فهم يشبهون المرأة الجميلة بالقمر, والرجل الجليل بالجبل, والشجاع بالأسد, والماكر بالثعلب, والبكر بالبيضة, والحصان بالصخرة المتحدرة.
لم تظهر تلك المصطلحات ولا عرفت إلا حين فشا اللحن, واضطربت الفطرة بدخول العجم على الإسلام واختلاطهم بالعرب الفصحاء, فجاء جيل مولد فسدت سليقته وانتشر الخطأ رويدًا رويدًا, وتعقدت التشبيهات والمجازات والكنايات حين دخلت العربية الفلسفة والمنطق وظهر علم الكلام.
الشاعر العربي الكبير امرؤ القيس يقول في معلقته:
وبيضة قوم لا يرام خباؤها……………….. تمتعت من لهو بها غير معجلِ
فشبه المرأة بالبيضة.. وليست هناك صعوبة في فهم تلك الاستعارة ولا ما يرتبط بها, ويقول:
مكر مفر مقبل مدبر معًا ……………… كجلمود صخر حطه السيل من علِ
فوصف الحصان كأحسن ما يكون وأروع ما يمكن دون تعقيد بين المشبه والمشبه به.
ولولا وعورة اللغة مقارنة بالفصحى المعاصرة لكانت مشهدًا سينمائيًّا يتغنى به أطفالنا وكبارنا على السواء.
ويمضي الزمان فتتعقد التشبيهات وتتغير الصور, وتدخل الفلسفة وتتنوع البيئات, ويبقى الشعر كما هو طول العصر العباسي..
فكان للبحتري والمتنبي وأبي تمام باع طويل في هذا الفن فن الشعر طبعًا لا صناعة وبوحًا لا تصنعًا, يقول أبو تمام واصفا الخليفة:
إقدام عمرو في سماحة حاتم……………. في حلم أحنف في ذكاء إياس
لا تنكروا ضربي له من دونه………….. مثلا شرودًا في الندى والباسِ
فالله قد ضرب الأقل لنوره………………… مثلا من المشكاة والنبراسِ
ويقول البحتري:
أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكًا……… من الحسن حتى كاد أن يتكلما
وقد نبه النيروز في غسق الدجى………… أوائل ورد كن بالأمس نومًا
يفتقها برد الندى وكأنه……………………… يبث حديثًا كان قبل مكتمًا
ويفخر المتنبي فيقول:
وما الدهر إلا من رواة قصائدي إذا قلت شعرًا أصبح الدهر منشدًا
فسار به من لا يسير مشـــــمرًا وغنى به من لا يغني مغـــــــردًا
وبدخول العروبة في العصر المملوكي والعثماني طغت الصنعة على الشعر المطبوع بعد ظهور علم البلاغة واستمكانه في القلوب والعقول, فصار الشعراء يستدعون المعاني ويلصقونها بالمفردات, ويزينون أبياتهم وقصائدهم بالسجع والجناس والطباق, ويغرقون في مفتعل الاستعارات والكنايات والتشبيهات.. حتى تأخر الشعر كثيرًا ومات الطبع الذي كان أروع ما فيه, والسليقة التي كانت تشد الناس والمغنين إليه.. وبعدما كان ديوان العرب صار أكذوبة من أكاذيب البيان, وألعوبة من ألاعيب البديع, وتعقيدًا من تعقيدات علم المعاني وفلسفته.
وإن تاريخ الأدب ليشهد للبارودي بإحياء الشعر العربي في عصره فأصبح رمز الإحياء والتجديد, وبعث الشعر العربي من نومه ومواته إلى طبعه القديم وصولته الكبرى في عصور الازدهار, ولو أنه درس علم البلاغة لسقط في الفخ وصار كمن كان قبله صوتًا مكررًا, وتعقيدًا مكروهًا, وترفًا لغويًّا وأسلوبيًّا لا نفع فيه, وما له بهاء.
جميع الحقوق محفوظة لجامعة المنح للتعليم الإلكتروني
إشترك في قائمتنا البريدية
It is a great